الاثنين، 1 ديسمبر 2008

أبا نور في ذمة الله



قبل عدة أعوام، تقدمت لخطبة إحدى الفتيات من إحدى العوائل الكريمة، فاستقبلني أبوها بابتسامة صادقة  وبصدر رحب وبتواضع يأسرك قلما نشهد له مثيلا.


قبلني زوجا لابنته، وأنا لم أزل طالبا على مقاعد الدراسة، لا أعمل وليس لي أي مصدر للدخل، لم يطالبني بشيء، لم يطلب درهما ولا دينارا، لم يسألني شقة أو أثاثا أو سيارة، رفض أن يسمي مهرا أو شبكة، وأذكر أنه قد قال لي حينها:

 ”إن أكرمتها، فذاك يغنيني ويغنيها عن مال الدنيا بأسره، وان أهنتها فلن يعوضنا عن ذلك كنوز قارون


 
وعند عقد القران، طلب مني أن أعلم ابنته القرآن، وأساعدها على حفظ كتاب الله، ووعدته خيرا.


 
انتقل عمي إلى جوار ربه يوم الجمعة الماضي عند منتصف الليل وهو شاب في الأربعينيات من عمره، ليترك في القلب لوعة، وفي النفس حزنا، وفي العين دمعة.


 
كم شهدنا من جنازات، وكم دفنا من أموات، إلا أن فراق من عرفنا وخبرنا ومن كان له في القلب مكانا وفي النفس مكانة لهو أشد وأصعب، لم يسبق أن تأثرت بموت أحد كما فعلت اليوم، بكيته كما لم أبكي أحدا قبله، لم أكن أعلم كم هو صعب أن تبقى الدموع في محاجرها، لم أكن أعلم كم كان قريبا مني وأنا الذي ابتليت بفقدان أبي وأنا صغير ليكون لي خير أب ويكن لي خير أخ وخير صديق رغم السنوات العشرين التي تفصل بيننا.


 
لم أشعر يوما بالغربة في بيته، فكان سهلا أريحيا، أرتاح عنده أكثر مما أرتاح في بيتي، لم يتكلف لي يوما قط ولم يجاملني لئلا أشعر أني ضيف ثقيل، عرفته كريما، لا يغيب الضيف عن بيته، فلم يكن ليستمتع بوجبة طعام لوحده، عرفته متواضعا يدخل قلب كل من عرفه، عرفته حسن الخلق، طيب المعشر، دمثا، طيبا، حنونا، محبا، صادقا، صاحب نكتة، عرفته خدوما لا يرد سائلا، لم يكن ينتظر أن يسأله الناس، بل كان دوما سباقا إلى الخير، مبادرا إلى خدمة الآخرين ومساعدتهم رغم ظروفه الصحية وضيق ذات اليد، لم يكن رجل دنيا، لم تغريه يوما مظاهرها الخادعة وزينتها الفانية.


رأيته في أيامه الأخيرة بصحة ونشاط لم أشاهدها منذ عرفته، وكان يتمتع بكل الصحة والعافية وكأنها صحوة الموت، فعلى مدى سنوات عمره الأخيرة، أجرى أربع عمليات مختلفة وعانى من المرض ما عانى، وكأن الله أراد أن يبتليه قبل موته فيلقى ربه طاهرا نقيا.


ساق الله له والده السبعيني قادما من العراق في زيارة له ليقوم على خدمته وطلب رضاه، فيلقى ربه بارا بأبيه وهو راض عنه، أكرمه الله بصيام الأيام الأخيرة من عمره، وأجرى الشهادة على لسانه وهو بين أبنائه وأهله لتكون آخر كلمات ينطق بها قبل موته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.



 
اتصل بنا قبل ساعات من وفاته، طالبا أن يحدث حفيدته “لينا” والتي رآها قبل يومين، فقد اشتاق لسماع صوتها وكأنه أراد توديعها.




 
رحم الله “أبا نور” وجعل له نورا في قبره، ونورا يزين وجهه يوم القيامة، ونورا يقوده إلى جنة الخلد بإذن الله.


 
اللهم ارحم “بهاء الراوي” وألبسه لباس السرور والبهاء، وارزقه الفردوس الأعلى، واحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.


 
ولا أراكم الله مكروها بعزيز



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق