الاثنين، 13 فبراير 2012

لا أقوى على الكتابة

 

تتزاحم الأفكار في رأسي، تتدافع وتتقاتل فيما بينها رغبةً في التحرر من سجنها، فهي تعرف يقينا أنها قد تذوي وتموت ما لم تتحول إلى حبراً على ورق في أسرع وقت ممكن، فغداً ستأتي فكرة جديدة؛ ربما أجمل وربما أقوى فتأخذ مكانها لتقبع وحيدة في زاوية بعيدة حتى يقضي عليها النسيان.

الأفكار كالبشر، فيها القوي وفيها الضعيف، فيها الحق وفيها الباطل، فيها الشبهة وفيها الشهوة، تحاول كل واحدة منها أن تتقرب إلي بشتى الطرق طمعاً بأن تتفوق على قريناتها وتحظى بما عجزت عنه الأخريات، فتتبوأ تلك المكانة، ويكون لها مقعداً خاصأ في مدونتي أو على صفحات التويتر أو الفيسبوك، تحلم في اليوم الذي تخرج به من رأسي وتتحدث فيه إلى العالم، تتخيل نفسها في أبهى حللها والناس ينظرون إليها، ويتفكرون في تضاريس جسدها من حروف وكلمات، فهي بطبعها ترفض أن تكون حكراً على أحد، وأن يتملكها شخص ما ويفرض عليها قيوده.

تغريني الأولى بكلماتها الجذابة ومظهرها الأنيق وكم سيحسدني أصحابي على جمالها ورونقها، وتحاول الثانية أن تظهر بساطتها وسهولتها، وكم من السهل عليّ أن أرمي بها في بحر الانترنت من دون جهد ولا مشقة، وتبرُز أخرى لتريني كم هي قوية وجزلة، سيتسابق الأدباء لخطب ودها، وتخرج رابعة متباهية بمشيتها فهي موزونة ولها قافية، سيتساقط الشعراء معربين عن ضعفهم أمامها، وهناك من بعيد تلوح لي إحداهن مذكرة إياي بتميزها، فهي عجيبة غريبة وغير مألوفة ستضمن لي حتماً الكثير من الشهرة، وليس بعيداً عنها تقف فكرة خجولة مترددة، راغبة متمنعة، وبجانبها فكرة دينية أو خاطرة إيمانية تحاول جاهدة أن تذكّرني بما حاول أبواي جاهدين أن يربّياني عليه، وتعترض طريقها فكرة علمانية تؤازرها فكرة تنويرية وأخرى تغريبية أستجمع قواي لمنعهن من الانتصار فهن مغرِيات محببّات إلى النفس الأمّارة، أفكار كثيرة تغريني وترهقني، أفكار سياسية واقتصادية واجتماعية، أفكار من مصر وسوريا ولبنان، من المغرب وتونس وعمّان، من الخليج وأمريكا واليابان، ألملم أوراقي وشتات أفكاري، أستعرضهن جميعاً أمامي، في محاولة يائسة لاختيار الأفضل، ولكن هيهات هيهات.


 
يقع اختياري على واحدة...
أمسك قلمي كي أدونها...
تترآى أمامي صورة طفلٍ بأطراف مبتورة يؤنبني...
وأمٍ مكلومة تعاتبني...
تأبى يداي الكتابة...
أمسك القلم مرةً أخرى...
تسقط دمعة طفلٍ فقد أبويه، فتبلل الورقة...
أُخرِج ورقة أخرى فأسمع صرخة فتاةٍ عفيفةٍ شريفةٍ تخترق أذناي مُثنيةً إياي عن الاستمرار...
ترجوني أن ألبّي استغاثتها...
أتمادى في الغيّ وأرفع صوت المذياع كي لا أسمعها...
أحاول مرة أخرى...
يأبى القلم، ويرفض...
يشاكسني فيكتب باللون الأحمر...
يُذكّرني بشبابٍ وشيوخ، بنساءٍ وأطفال كتبوا التاريخ بدمائهم...
أخذت قلماً آخر...
لا فائدة...
قلم ثالث ورابع وخامس...
تآمرت الأقلام علي...
حتى وجدت ضالتي في قلمٍ أسود، وآخر أخضر...
لا تهم الألوان، المهم أن أكتب، وأنتهي من مقالتي...
تطير الورقة، فما كان لها أن تخون أرض العلم والأدب والحضارة...
تطير الورقة، وتأبى أن تنسى فضل الشام وأهل الشام...
تباً للأوراق المندسّة...
سأستخدم أوراقاً أخرى...
تتشجنج يداي، وتَجمُد في مكانها...
أيقنت حينها أنني لا أقوى على الكتابة...
وفينا جرحٌ ينزف...
لن أقوى على الكتابة وفي رأسي عشرات الصور والمشاهد التي لن تقوى أقوى الأفكار على مدافعتها...
لن أقوى على الكتابة ومشاهد القتل والدمار في درعا ودمشق وحماة وحمص مستمرة...
لن أقوى على الكتابة وأنا مذنب مقصّر...
لن أقوى على الكتابة وذاك الطفل ما زال ينظر إليّ...
لن أقوى على الكتابة حتى يسمح لي أهل الشام بذلك...
عذراً سوريّا
عذراً
عذرأ
عذراً

هناك 3 تعليقات:

  1. حياتنا ستبقى وهمية و ساذجة طالما يموت بيننا الحر .. و يعيش الجبان !! نعم .. أنا أول الجبناء يا أواب :(

    ردحذف
  2. معبرة جدا...شاركتها على صفحتي بعد إذنك

    ردحذف
  3. @Sonnet

    يشرفني ذلك، ويسعدني

    ردحذف