الاثنين، 9 يوليو 2012

مسلسل الفاروق


ابتدأ العدّ التنازلي لحلول شهر رمضان المبارك، شهر الخيرات والطّاعات، وابتدأ النّاس يستعدّون له كلٌّ بحسب اهتماماته وأولوياته، إلّا أن الشيء المشترك بينهم جميعاً هو ذلك الاهتمام بمسلسل الفاروق الذي تنوي شبكة الMBC عرضه في شهر رمضان كجزء من برامجها لهذا العام، وقد انقسم النّاس حيال المسلسل وعرضه إلى فئتين بين مؤيد ومعارض، بين متحمّس ومحارب، ومن يتابع وسائل التواصل الإجتماعي كفيسبوك وتويتر، يجد أن الموضوع قد أخذ أكبر من حجمه بكثير، حتى أنّ الجدال حوله كاد يطغى على أخبار المذابح التي تُنصَب يومياً لإخواننا في سوريا وأراكان بورما، وقد بالغ بعضهم في دفاعه عن المسلسل ليزعم بأنّ هذا العرض كفيلٌ ببناء خلافة راشدة جديدة على منهاج سيرة الفاروق  بعد عرضِها على الشاشة.



وقد آثرت الصمت طيلة الأيام الماضية، مكتفياً بالمتابعة، وتوصيف الحال ومحاولة تفسيره، وبعد نظر عميق وجدت أن دائرة الخلاف بين المؤيدين والمعارضين ضيقة جداً، وأن ما يتفقون عليه بالمجمل أكثر بكثير مما يختلفون عليه –وهنا أتحدّث عن السواد الأعظم من النّاس، وليس عن شذّاذ الفكر والعقل من الطرفين-، فأحببت أن أعرض ما اتفق عليه الجميع، لأبدأ بعد ذلك بتحرير محلّ النزاع وحصر الخلاف في نقاط محدّدة.




النقاط المتفق عليها:

1.   احترام وتقدير الصحابة الكرام، والاعتراف بفضلهم ومكانتهم وخصوصيّتهم، والحرص على إبراز سيرتهم بأفضل طريقة ممكنة كي يقتدي بها الأجيال، مع الاعتراف بفضل الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنّة على غيرهم من الصحابة.



2.   أنّ الدراما والأعمال التلفزيونية والسينمائية هي من أقوى أدوات العصر لنشر الثقافة والفكر، ولابدّ من استغلالها وتسخيرها للتغيير وإعادة بناء حضارتنا الإسلامية.



3.   أنّ تحريم تجسيد الصحابة وتمثيلهم هو تحريم غير مطلق، بل هو تحريمٌ قائمٌ على المصالح والمفاسد، يدور في فلكها حلّاً وتحريماً.



4.   أن إجازة هذا العمل أو تحريمه هو من اختصاص أهل العلم في الشريعة والسيرة والتاريخ.



5.   إن الاقتداء بسيرة الفاروق في الدين والحكم والسياسة هو الهدف الذي يسعى إليه الجميع، وأنّ المسلسل مجرّد وسيلة لتحقيق ذلك.

وبعد هذا العرض الموجز، لما اتّفق عليه الجميع، فإنّ نقطة الخلاف أصبحت محصورة في المصالح والمفاسد، وهي محلّ النزاع، وأنّ الخلاف في حقيقته يدور حول وجود المفسدة أو تحقّق المصلحة من عدمها، ولتقدير ذلك وتحديده بطريقة صحيحة لابدّ لنا من إعادة النظر إلى الموضوع من زواياه المختلفة، والتي تتخذ عدة صور وأشكال:


1.   يقوم بانتاج المسلسل مؤسسة الMBC سيئة الذكر، والتي لا أظنّ عاقلاً يجادل في حقيقة هذه المؤسسة وأهدافها المعلنة وغير المعلنة، وكلّنا شاهد ورأى موقفها من الثورة المصرية والسورية وغيرها، وكلّنا يعلم دورها في إفساد أخلاق الجيل الجديد عبر قنواتها المختلفة، فمن المستبعد أن تكون قناة تقوم بهذا الدور الخبيث بالحرص على إعادة إحياء تراثنا الإسلامي وإبراز سيرة الفاروق بأبهى حُلةٍ ممكنة، الا أنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّها ستسعى لتشويه صورته –وإن كنت لا أستبعد ذلك-، الا أن تاريخ القناة يعطينا مُطلق الحق في عدم الثقة في نواياها، وأنّه من السذاجة أن نُحسن الظن بها، ونزعم أنّها تؤدي رسالة إنسانية تسعى من خلالها لإحياء سيرة الفاروق في نفوسنا، وبما أنّ الإنصاف يتطلّب منّا الّا نرمي الاتهامات جزافاً وبلا دليل، فإنّ أقصى ما نستطيع القيام به هو افتراض أنّ المؤسسة تسعى لتحقيق المكاسب المادية، وهو حقٌّ مشروع، وقد أبدع الصديق العزيز ياسر بكر في تفصيل ذلك وشرحه عبر مدوّنته المميزة The Bubble over My Head.





2.   المؤيدون للعمل والمتحمّسين له بنوا رأيهم بناء على فتاوى صادرة من بعض أهل العلم والاختصاص زاعمين بأنّ نخبةً منهم قاموا بمراجعة النصوص، وقد شملت القائمة أسماء يكفي الواحد منها للاطمئنان إلى جودة النّص وصحّته، كسلمان العودة ويوسف القرضاوي وعلي الصلابي وغيرهم.





وهنا يبرز التناقض الأكبر، فهل يُعقل أن نملأ الدنيا صريخاً وعويلاً بأنّ سيرة الفاروق وغيره من الصحابة في كتب السيرة والتاريخ لا تكفي، ولابدّ من تحويلها لأعمال درامية بالصوت والصورة كي يكتمل المشهد وترسخ الصورة في أذهاننا وأذهان الجيل الجديد بصورة إيجابية تشحذ النفوس وتحرّك الهمم، ثمّ نكتفي بمراجعة النصوص فقط لإصدار الفتوى، دون الاطّلاع على العمل بصورته النهائية بعد إدخال الصوت والصورة والقيام بأعمال الأخراج والمونتاج، إن المتابع العادي للأفلام والمسلسلات التلفزيونية يعلم يقيناً بأنّ العمل التلفزيوني يختلف جوهرياً في كثير من الأحيان عن النّص الأدبي، وهو يمثّل وجهة نظر المخرج أكثر من تمثيله لما يراه الكاتب، والأمثلة أكثر من أن تُحصى عربيّاً وعالمياً، وقد صرّح أكثر من كاتب في العديد من المناسبات بأنّ روايته التي تحوّلت إلى عمل سينمائي قد أصابته بخيبة أمل كبيرة لأنها جاءت على عكس ما يتصوّر، كما أنّ التاريخ السنمائي يشهد بأنّ العديد من الروايات الناجحة جداً قد باءت بالفشل عند تحويلها لفيلم سينمائي، وهناك العديد من الروايات التي تم تصويرها وتحويلها لعمل تلفزيوني أو سينمائي لأكثر من مرّة، وكان كلّ عمل مميّزاً عن غيره لدرجة عدم القدرة على الربط بينهما.





وهنا أمام أصحاب الفضيلة والعلماء الذين أجازوا العمل بناء على النص وحده واجب تاريخي وشرعي في إعادة النظر في فتواهم، وطلب الإطلاع على العمل بصورته النهائية قبل أن يجيزوا عرضه، لئلّا يقعوا في المحظور، ويكونوا قد تعرّضوا لاستغلال الشركة المنتجة في التدليس على الناس.





3.   الممثلين الذين سيقومون بالعمل، وهذه نقطة في غاية الأهمية، والجدال حولها ليس مجرّد أقاويل وتوقّعات لا أساس لها من الصحّة، فالصورة الذهنية قد تبقى عالقةً في الذّهن أبد الدّهر، خصوصاً عند الصغار الذين يشكّلون فئة كبيرة من المشاهدين، وبالتّالي فإن الممثلين الذين سيؤدون دور كبار الصحابة ستنطبع صورتهم في الأذهان، ويصبح من الصعب الفصل بينها وبين الشخصية الحقيقية، بما قد يكون له أثر سلبي، خصوصاً إذا كان الممثل له مشاهد وأدوار غير لائقة.  





4.   يعمد الكثيرين إلى تأييد العمل لمجرّد أنه تجديد وخروج عن المألوف دون أدنى اعتبار لأي شيء آخر، ومن المؤسف أن نجد الكثيرين منهم يرمي المعارضين بالتخلّف والرجعية وقلّة الوعي والفهم، متناسين بأنّ قلة الفهم هذه لم تكن موضع نزاع قبل عدّة أعوامٍ من اليوم، إنّ من يدّعي الفهم ويرمي المعارضين بالتخلّف والجمود لا يقلّ سوءاً عن الذين يرفضون كلّ جديد لمجرّد أنّه جديد.





كلمة أخيرة: أتمنّى أن يخرج العمل بصورة مشرّفة، وأن يكون خطوة في الاتجاه الصحيح، وأن تكون مخاوفنا مجرّد وهم.





كما أتمنّى من الفريقين أن يمتلكوا من الشجاعة ما يكفي للاعتراف بالحقّ وبيان رأيهم بكلّ تجرّد بعد عرض العمل وبيان خيره من شرّه، مع الاعتراف بالخطأ إن لزم الأمر.

هناك تعليق واحد: