الخميس، 8 نوفمبر 2012

تفاوض الثعالب


 
 
قبل عدة أشهر، كنّا بصدد توقيع اتفاقية رئيسية مع إحدى الشركات الكبرى العاملة في قطاع الطاقة، وكانت قيمة العقد تقدر بمئات (الملايين) من الدولارات.

 

ولذا وجدنا أنه من المجدي إنفاق بضعة (آلاف) من الدولارات في التحضير الجيد والإعداد المسبق للتفاوض بما يحقق لنا أكبر قدر من المكاسب في هذه الصفقة، فقمنا بالتعاقد مع إحدى الشركات الأجنبية المتخصصة في تقديم الاستشارات الخاصة بالتفاوض وعقد الصفقات في مثل هذا النوع من العقود، وذلك لوضع خطة الطريق والأساليب والسياسات التي يتوجب علينا اتباعها في عملية التفاوض (متى نتحدّث؟ ومتى نلتزم الصمت؟ كيف ومتى نهاجم؟ وكيف ومتى ندافع؟ وهكذا)، وبما يتوافق ويتلاءم مع طبيعة هذه الصفقة تحديداً والمكتسبات التي نرغب بالحصول عليها.

 

بعد عدة أيام كان تقرير المستشار على مكتبي

بدأت أقلب صفحاته الواحدة تلو الأخرى، وأنا غير مصدّق لما أراه

بدأت بقراءة الفصل الأول، فالثاني، فالثالث، الفصل تلو الفصل، ثم أعود إلى صفحة الغلاف كي أتأكد أنه التقرير المطلوب، وأنه ليس هناك خطأ ما

 

فقد كنت أظن -لجهلي- أني سأقرأ شيئاً عاماً عن أساليب التفاوض

أن أقرأ معلومات عن الأسعار والأرقام وبعض المعلومات التفصيلية الخاصة بحركة السوق

أن أقرأ معلومات عن وضع المنافسين، وموقفهم من الصفقة

أن أقرأ عن الثغرات القانونية، والفجوات الفنية

أن أقرأ عن نقاط القوة والضعف عند الطرف الآخر

 

ولكن المفاجأة كانت في التقرير الذي خالف كل التوقعات

فلم يكن فنياً

ولم يكن إدارياً

ولم يكن تجارياً

ولم يكن قانونياً

وإنما كان اجتماعياً ونفسياً بامتياز

 

كان يضم فصلاً خاصأ لكل عضو من أعضاء فريق التفاوض عند الطرف الآخر

ماذا يحب؟ وماذا يكره؟

النادي المفضل، والطعام المفضل

العائلة، الأولاد، الاهتمامات، المعتقدات السياسية والدينية

الصفات، العادات، المهارات

أصحاب التأثير عليه من الأقارب أو الأصحاب، -للأمانة لم يذكر التقرير أن أحدهم كان يستمع إلى زوجته-

الطباع الذاتية، والصفات النفسية

وأخيراً النصائح والتوجيهات الخاصة بالطريقة المناسبة للتعامل مع كل شخصية، مع ذكر بعض الاقتراحات التي تبدو للوهلة الأولى أنها سخيفة وتافهة مثل:

"اجعل علّاقة مفاتيحك للنادي الفلاني"
 
"قم بتعليق لوحة للرسام الفلاني من المدرسة السيريالية التجريدية التكعيبية في غرفة الاجتماعات"
 
"افتح كمبيوتر العرض الرئيسي على صفحة لإحدى الحركات السياسية أو الجماعات الدينية، والتي يؤيدها أحد أعضاء الطرف الآخر -بالغلط يعني- ثم أنزلها بسرعة عند بدء الاجتماع"
 
"اجعل نغمة هاتفك: الأغنية الفلانية للمطرب الفلاني"

 
نصائح عامة، بفتح مواضيع جانبية مشتركة، يُخطّط لها بعناية كالحديث عن الأولاد والعائلة، فإذا كان أحد أعضاء فريق التفاوض عنده بنت عمرها 6 سنوات، فكل ما هو مطلوب مني في فترة الاستراحة أن أرفع هاتفي وأتحدث فيه قليلاً، ثم أعود إلى محدّثي لأشتكي له من ابنتي الشقية التي تتصل بي كل ساعة لتطلب مني شيئاً أو تخبرني بما فعلته والدتها، فيجدها فرصة كي يبادلني الحديث عن ابنته، وهكذا.

 
طبعاً أنواع (الشراب) المناسبة لكل واحد منهم، لأجل عشاء العمل.

 
 
 
الموضوع باختصار: رسائل نفسية غير مباشرة

 

ثم يأتي فصل خاص، يتحدّث بإسهاب عن الشخصية الأصعب (بالاسم) وعن كيفية التعامل معها، بما لا يَضُرّ بسير الصفقة، وهذه الشخصية قد تكون أي فرد في فريق التفاوض، فربما تكون المدير التنفيذي، أو القانوني، أو المدير المالي، أو ربما السكرتير، فالموضوع لا علاقة له بالمنصب، وإنما بطبيعة الشخصية

 

وأخيراً يأتي التقرير الفني، في فصل مقتضب عن وضع الشركة المالي، ومشاكلها الداخلية، والثغرات القانونية، والمنافذ التي نستطيع من خلالها تحقيق بعض المكاسب كسعر المنافسين، وحاجتهم للسيولة، وخسارتهم للعقد X لصالح الشركة المنافسة، وغيرها من الأمور التي نتوقعها في مجال المفاوضات

 

هذا كله في صفقة تجارية -صغيرة نسبياً- إذا ما قورنت بالصفقات التجارية الكبرى التي تقدّر قيمتها بالمليارات من الدولارات، فكيف إذن بالصفقات السياسية والعسكرية، والتحالفات الدولية؟


أترك لكم الإجابة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق